Tuesday, November 6, 2007

نحو الخروج من دائرة العلمنة واللبرلة

مازال الغموض يلف اثنين من أهم المفاهيم التي تحيط بنا في المجال الفكري والسياسي وعلى مستوى الممارسة. العلمانية والليبرالية. ولا أعتقد أن يوماً سيأتي ونشهد فيه حلاً لتلك القضية، أي الاتفاق على مدلولات هذين المفهومين من قبل المؤيدين والمعارضين لهما. والأشد سوءً من ذلك هو مطابقة الديمقراطية عند البعض مع هذين المفهومين. لا شك أن الديمقراطية تتلاقى مع العلمانية والليبرالية في عدة مستويات عند فحص هذه المفاهيم بدقة، ولكن تنفصل في نفس الوقت عنهما في مستويات أخرى.

هذا الغموض انعكس على طبيعة الصراع الذي تخوضه كافة القوى في مجتمعاتنا العربية، فبدل أن يتم توجيه القدرات والإمكانات الفكرية في سبيل حل الأزمات الكبرى والتخلص من الآفات التي نعاني منها من جهل وتخلف عن العودة مرة أخرى إلى السياق التاريخي الإنساني كأحد الأطراف المنتجة لمكونات الحضارة الإنسانية، وليس كمستهلكين فقط لنتاجها المادي. بدل ذلك كله، كرسنا أنفسنا للدفاع عن هذه المفاهيم أو الهجوم عليها أو الهجوم على الآخرين من خلالها وبسببها.

بعد فشل القوى العلمانوية، في منتصف القرن الماضي، في حل القضايا العربية وفي مقدمتها قضية التحرر والتنمية برزت أصوات القوى الإسلاموية، في العقدين الماضيين، تنادي بـ "الإسلام هو الحل" وبعد فشل هذه الأخيرة في صياغة مشروع قابل للحياة على أرض الواقع عاد مرة أخرى العلمانويون للظهور إلى السطح مدعومين من قبل قوى ليبرالوية بعد انتهاء الحرب الباردة وانحسار نفوذ الماركسيين. لكن بدا هذا الظهور ضعيفاً عن سابقه بسبب فشل المحاولات الأولى من جهة ونمو القوى الإسلاموية من جهة أخرى، ورافقه تغني تلك القوى بنفس أسطوانة الحل الإسلامي ولكن بصوت آخر: "العلمانية هي الحل" أو " الليبرالية هي الحل".

لكن، ألم يحن الوقت للخروج من دائرة الدفاع والهجوم والاختلاف حول هذه المفاهيم؟

تم تحويل العلمانية من إطار عام يحدد العلاقة بين الدين والدولة، وبالتالي نظرة القانون تجاه المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية، إلى دين بحد ذاته، أي أدلجة العلمانية وتحويلها إلى مفهوم جامد قادر بل يقوم بالفعل بالمزاحمة على طرح إجابات على الأسئلة الكونية الكبرى. تمت عملية التحويل تلك على أيدي العلمانويون والإسلامويون بشكل تبادلي، حيث قام هؤلاء بجعل العلمانية نفياً للدين، أي حولوها إلى دين له عصبياته الخاصة وربما طوائفه أيضاً. وبدأ العلمانويون يحاربون الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص في العلن في بعض الأحيان وفي الخفاء في أحيان كثيرة، وهاجم الإسلامويون بدورهم العلمانية نتيجة هذا الفهم ذاته وكونها مفهوم جاء من الغرب الكافر الذي يريد القضاء على الإسلام من خلال الغزو الثقافي والفكري الذي يمارسه لاستعمار العقول تمهيداً لإعادة استعمار البلاد.

ومن جهة أخرى، نجد بعض العلمانيين انزلقوا إلى تلك المعركة محاولين الدفاع عن العلمانية. إلا أنهم وفي رأيي أخطؤوا في الاتجاه، فقاموا بمحاولة تقديم الوجه الحسن للعلمانية وكأنها مفهوم جامد مرة أخرى لا يتحرك مع حركة المكان والزمان مبتعدين بذلك عن أي محاولة لنقده ووضعه في تصرف أدوات الدراسة والتحليل. ولم ينجو البعض القليل من الإسلاميين الذين آمنوا بالعلمانية كممارسة فصل الدين عن الدولة دون التخلي عن إسلامهم، لم ينجوا من هذا المنزلق فألبسوا العلمانية رداءً إسلامياً في محاولة لحل التناقض الذي صنعه المؤدلجون من كلا الطرفين من ناحية، ومن ناحية أخرى في محاولة لتسويق هذا المفهوم في الأوساط الإسلامية ولجعله مقبولاً لدى أوسع شريحة اجتماعية. وكان استنادهم الأساسي على حديث الرسول: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". من المنطقي إذاً أن تكون النتيجة هي فشل كل تلك المحاولات، لسببين: الأول كما ذكرنا ابتعادهم عن تحليل هذا المفهوم ونقده من خلال إيمانهم بصلاحيته لحل جميع الإشكالات المزمنة لمجتمعات العالم العربي، والثاني هو الضجيج الإعلامي الذي يخلقه كلاً من العلمانويون والإسلاميون الذي يطغى على كل حديث هادئ.

وبدورها تعرضت الليبرالية لنفس عمليات الأدلجة التي قام بها كلاً من الليبرالويون والإسلامويون مرة أخرى. ولكن بدرجة أقل، لأن الليبرالية واضحة المعالم بشكل أكبر، بما هي فلسفة للحرية. وأدى عدم فهم حركة الفلسفة الليبرالية عبر التاريخ والدول إلى مصادرتها من قبل البعض ومناداتهم بالحل الليبرالي. قدس هؤلاء الحرية الفردية بغض النظر عن أي اعتبار آخر واعتبروا أن المدخل لنيل هذه الحرية هو أولية الإصلاحات الاقتصادية وفتح الأسواق وتشجيع الاستثمارات، لتحقيق الرفاه المادي لمختلف شرائح المجتمع، وبعد ذلك تصبح الديمقراطية والحريات العامة والدينية والفردية تحصيل حاصل. ومما عزز موقف هؤلاء، بل وجهه أيضاً، هو دعم القوى الرأسمالية المستحدثة التي رأت في هذا التوجه تحقيقاً لمصالحها العليا المتمثلة في مراكمة رأس المال. ولتحقيق ذلك، أصبح من الضروري تعزيز التوجه الشعبي نحو تعظيم الاستهلاك المادي بما يعوض الجماهير عن عقدة النقص الحضاري تجاه الغرب من خلال تقليده في الملبس والمأكل وحتى في استخدام الكثير من مفرداته اللغوية ظناً منها أنها دليل الثقافة والحرية والتحرر. وإذا علمنا أن أصحاب رؤوس الأموال والمسيطرين فعلياً على مفاصل الحركة الاقتصادية في العالم العربي هم في الواقع من مفرزات النظام الحاكم أو حتى من مكوناته الأساسية، وأن استمرار الطبقة-الدولة لا تكون إلا بتهميش دور المجتمع والإبقاء عليه متخلفاً غير واعٍ لمصالحه والحفاظ على السلطة القمعية في مواجهة مصالح الأغلبية الشعبية، لتيقنا أن الهدف الخفي، الواضح، هو زيادة إفقار جميع شرائح المجتمع من خلال هضم فائض قيمة العمل الحقيقة، وتعميم ثقافة الاستهلاك التي لن تنتج إلا أفراداً متناحرين يسرق كلاً منهم الآخر للحصول على آخر ما توصلت إليه منتجات الماركات العالمية حتى على مستوى الدجاج. وبما أن الهدف الأسمى للقوى الرأسمالية المستحدثة هو تحقيق الربح بأسرع وقت وأسهل الطرق، بالإضافة إلى فشلها في تطوير وسائل الإنتاج، نجد أن الاقتصاد الذي أنتجته هو اقتصاد ريعي لا يعتمد على إنتاج حاجات المجتمع بل على استيراد وإنتاج الكماليات مما يؤدي إلى امتصاص الموارد الطبيعية الوطنية لتأمين القطع الأجنبي اللازم لذلك، وهذا الاستنزاف للموارد يزيد بدوره مرة أخرى من فقر الدولة وتحميل أعباء إضافية على المواطنين لرفد خزينة الدولة بالموارد المالية اللازمة لإنجاز بعض الخدمات العامة التي لابد منها لتحقيق الحد الأدنى من البنية التحتية لهذا الاقتصاد الريعي. وبما أن قدرة المواطن محدودة ولا يمكن فرض أعباء إضافية عليه إلى ما لانهاية، فلا سبيل آخر سوى زيادة الدين العام، لننتهي إلى زيادة التدهور الاقتصادي وتعميق الهوة بين طبقة أقلية مسيطرة في المجتمع وبين باقي طبقات المجتمع، في الحقيقة لن يبقى في الطرف الآخر سوى الطبقة الفقيرة المسحوقة والمذلولة في سبيل تأمين لقمة العيش. وبالتالي نجد أنفسنا أمام رأسمالية محلية تابعة في مقابل رأسمالية غربية مسيطرة حتى على القرار السياسي بسبب ضعف القدرة الوطنية على مواجهة التحديات اعتماداً على جماهير مغلوب على أمرها، ولعدم توفر إرادة التصدي للهيمنة الغربية بالإضافة إلى الازدياد المضطرد للدَّين العام.

ما هي النتيجة إذاً؟ سقطنا مرة أخرى في فخ الشعارات الفارغة ووقعنا مرة أخرى فريسة تسلط واستبداد أقلية طبقية مع تغير في الوجوه والأساليب مثل استبدال العصا بالصاعق الكهربائي في السجون.

قاوم الإسلاموين ومازالوا، الفكر الليبرالي كما يطرحه الليبرالويون، وكما فهموه هم أنفسهم كمعطى جاهز قادم من الغرب للاستهلاك العربي. لم يجدوا في الليبرالية سوى الإباحية والتحلل الأخلاقي، لم يجدوا فيها سوى المايوه والكليبات الهابطة كنتيجة حتمية للغزو الثقافي الغربي. من الخطأ القول هنا أن فهم الليبرالويون لهذه الفلسفة وممارساتهم على أرض الواقع قد انعكس على شكل رد فعل سلبي تجاهها من قبل الإسلامويون. بل أخذ كل منهما موقعه على حلبة الصراع من خلال تشويه الليبرالية وتفصيلها على مقاساتهم لتحقيق مصالحهم الذاتية في النفوذ والسلطة.

في ظل تدهور أوضاع المواطن العربي المادية والروحية بعد فشل جميع القوى القوموية والعلمانوية والليبرالوية والإسلاموية في الخروج من مآزق المجتمعات نحو الحضارة الإنسانية، وتحت تأثير الضغط الغربي نحو تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي واحترام حقوق الإنسان وترسيخ قيمة الحرية، اتجهت معظم إن لم نقل جميع القوى السياسية والنخب الثقافية العربية لإدراج الديمقراطية في خطابها وبرنامجها السياسي كهدف أسمى يجب النضال من أجله في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كوسيلة تدعم النضال من أجل تحرر الوطن والمواطن والفكر. "لكن المهم في الموضوع هو إدراك أن الديمقراطية، وإن كانت جزءاً من مشروع اجتماعي، لا تشكل بذاتها هذا المشروع، ولا يمكن أن تكون بديلاً عنه، وهو ما بدأنا نخشاه اليوم نتيجة لتبني شعارها من قبل أحزاب أو قوى سياسية فرغت جعبتها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية من أي مشروع مقنع فجعلت من الديمقراطية خشبة خلاص لها وللمتجمع بشكل عام".(1)

وما نخشى منه أيضاً هو ظهور ما يمكن تسميتهم يوماً ما بالديمقراطويون، ونقع في نفس الخطأ للمرة الرابعة من خلال الإيمان بمقولة "الديمقراطية هي الحل". فيجب أن ندرك "أن الديمقراطية هي نظام حكم، أي هي نظام ومؤسسة. وأنها تطمح كنظام أن تكون وسيلة لحل مسألة السلطة في المجتمع، بقدر ما ترتبط هذه السلطة بحياة هذا المجتمع في كل أوجهها. ولا يعني تقديم حل للسلطة تقديم حلول تلقائية للاستقلال الوطني وللتنمية وللعدالة الاجتماعية وللتوزيع. كما أن الديمقراطية ليست نظاماً معطى نستورده ونلبسه للدولة التي بنيناها على طريقتنا وللمجتمع الذي حطمنا هياكله كما شئنا فنحصل على نظام ديمقراطي. إن الديمقراطية معركة اجتماعية وسياسية من أجل إيجاد تعديلات بنيوية في طبيعة الدولة والمجتمع معاً".(2)

لا يمكننا إذن من الناحية العملية الشروع في بناء ديمقراطية حقيقة ما لم نباشر فوراً، وفي نفس الوقت، بتأسيس حاضنة اجتماعية لها، قادرة على رعايتها وحمايتها من الانحراف عن غاياتها. تلك الحاضنة ليست سوى منظومة قيمية اجتماعية جديدة تنطلق من المواطن الفرد بوصفه إنساناً وكائناً اجتماعياً ضمن نظام علاقاتي من الحقوق والواجبات. إذن، نحن نتحدث هنا عن ثورة اجتماعية شاملة تمس مجموعة القيم والعادات والمفاهيم والأفكار والممارسات العملية، وتتناولها بأسلوب نقدي جدي يهدف إلى تنقيتها وتنقيحها بل واستبدالها في كثير من الأحيان. ولا يمكن لهذه المنظومة القيمية الجديدة أن تنجح في دعم الحلول للقضايا الكبرى إلا إذا تحققت ثلاثة شروط:

أولاً: يجب أن نبرهن بأن أصل المشكلة لا يكمن في أشخاص بعينهم ولا في سلوكيات إشكالية هنا وهناك، ولا حتى في سياسات حكومية خاطئة، بل يكمن في ما وراء ذلك، وهو النظام السياسي والفكري والاجتماعي القائم برمته. أي يجب أن نبرهن على الحاجة إلى التغيير الجذري في مختلف المجالات وعلى التوازي. هذه المهمة، ليست في الحقيقة، تحصيل حاصل أو نتيجة بديهية للشعور بوجود المشكلة أو لمعاينة المشاكل التي يعاني منها المجتمع من تدني في مستوى معيشة الفرد، والانحطاط الأخلاقي للإنسان العربي، وتدهور نظم التعليم، والتبعية الاقتصادية والسياسية المباشرة والغير مباشرة للدول الكبرى. فالجميع يعي كل ذلك ويلمسه بشكل يومي، ولكن كم من الناس يدركون الجذور؟ فلا تكفي معرفتنا بأن مشكلة عدم قدرتنا على الحركة هو ظلام الغرفة، بل يجب أن نعمق تلك المعرفة من خلال التحقق من سبب عدم وجود النور ومن ثم إيجاد الحل المناسب. في الواقع يحتاج مثل هذا البرهان إلى جهود جبارة لإقناع المجتمع بالحاجة إلى التغيير، لأن هذا التغيير لا يكون إلا بهم ولهم. وتكفي كل تلك السنين من الاستقالة الجماعية عن حمل المسؤولية والسير في الظل بانتظار القدر يرمي بنا حيث يشاء الآخرون.

ثانياً: يجب أن تكون قادرة على تعيين ذاتها على أرض الواقع، أي على الخروج من الدائرة النظرية إلى الممارسة العملية. وهذا لا يتحقق إلا إذا خرجت هي أساساً من صلب الواقع، أي من خلال دراسة وتحليل مختلف جوانب المشكلة وعرض كافة الأفكار والممارسات الحالية على أدوات النقد، لمعرفة ما نحن بحاجة إليه بشكل فعلي بما ينسجم مع الأساس الإنساني الذي نستند إليه.

ثالثاً: يجب أن تشكل القاعدة المشتركة والمعبرة عن مصالح مختلف الفئات الاجتماعية، والتي يمكن للجميع الالتفاف حولها وحمايتها، مثل مجموعة القيم المعبرة عن الحقوق الأساسية للإنسان كحق الحياة والعيش الكريم والتعلم والعمل دون أي اعتبارات لأي اختلاف من أي نوع كان. إذاً لا يجب أن تتجاهل تلك المنظومة الجديدة مصالح الغالبية المتدينة في المجتمع في الحفاظ على القيم الدينية، في نفس الوقت الذي يجب أن تعبر فيه أيضاً عن مصالح أولئك الغير متدينين.

مازالت الأزمات تتلاحق وتزداد تعقيداً وتشابكاً في كل يوم نتأخر فيه عن التحرك والعمل لإيجاد الحلول للمسائل المصيرية المطروحة أمامنا اليوم. وفي المقابل هناك الكثير من الأمل لأن الشعوب تريد الحياة، وعندما تريدها فلا بد أن يستجيب القدر. وحتى نعبر عن تلك الإرادة يجب أولاً أن نسحب استقالتنا ونعود إلى العمل، ويجب أن يكون المثقفون أول من يبدأ تلك الحركة والنشاط والكف عن التكاسل والخوف حتى يستحقوا على الأقل الألقاب التي منحت لهم.

1) برهان غليون – بيان من أجل الديمقراطية – الطبعة الخامسة - ص 220

2) المرجع السابق - ص 221

Sunday, October 7, 2007

الإخوان المسلمون: بين البرنامج السياسي والأهداف

الإخوان المسلمون: بين البرنامج السياسي والأهداف

وردت بعض التعليقات حول مقالي الأخير "في المعارضة السورية"، منها كانت مؤيدة ومنها ناقدة. في أي عمل نقوم به نحن بحاجة للتأييد لتغذية الدافع الداخلي لدينا لتقديم المزيد لأنفسنا وللآخرين، كما نحن بحاجة للنقد أيضاً وبنفس الدرجة كمحرض لإعادة التقييم والمراجعة الذاتية. وهذا فعلاً ما حدث معي عندما استفزني فكرياً أحد المعلقين، مشكوراً، طالباً مني قراءة البرنامج السياسي للأخوان المسلمين وفعلاً حفزني ذلك على إعادة قراءة البرنامج السياسي للإخوان المسلمين وبعضاً من أدبياتهم. لكن قبل الخوض في الرد، أريد أن أسجل هنا اعتراضي على طريقة نقد البعض. فإما يتهمك بجهل الآخر أو بأنك تحتكر الوطنية لنفسك وتمنعها عن الآخرين.

ورد في مقالي عن الإخوان المسلمين: ورغم تأكيدات جماعة الإخوان المسلمين المتكررة على تبنيهم الديمقراطية كخيار وطني، إلا أننا لم نلاحظ اعترافاً واضحاً من قبلهم بأخطاء الماضي ولم نلاحظ أيضاً في أدبياتهم المختلفة أن الديمقراطية والمواطنة أصبحت من صلب بنيتهم الثقافية والأيديولوجية.

أريد هنا أن أميز بين البرنامج السياسي والأدبيات، أي البنية الثقافية. حيث أني أفهم أن البرنامج السياسي هو مجموعة من الخطوات التكتيكية التي سوف يتم اتباعها خلال مرحلة معينة للوصول إلى هدف محدد. أما الأدبيات فهي تعبر عن الأهداف والحقيقية وعن المعتقدات أو الأيديولوجية.

يركز البرنامج السياسي للإخوان المسلمين على الديمقراطية والحقوق المدنية...الخ. ولا أعتقد أن ذلك يخرج عن كونه خطوة في برنامج سياسي لتحقيق الغاية النهائية التي نراها بوضوح في أدبيات الإخوان المسلمين والتي جاءت دون مواربة في مجموعة الحلقات المخصصة للتعريف بجماعة الإخوان المسلمين.

المهم لدينا هنا هو فكر الإخوان المسلمون، والذي نجده مختصراً على موقعهم الرسمي:

... وتعرّض المسلمون بعدها إلى هجمات متتالية سياسية وعسكرية وثقافية، وظهرت فيهم دعوات غريبة علمانية، تأخذ صوراً شتّى، تتصادم مع الإسلام، وقد تلتقي معه التقاء عَرَضياً، كدعوات القوميات العربية والطورانية والفرعونية، ودعوات تحرير المرأة والتحدث بالعاميّة، والكتابة بالحرف اللاتيني، ونبذ القيم والعادات المرتبطة بالإسلام، وإتاحة الفرصة للعلمانيين والمتحلّلين لكي يبلغوا أعلى المناصب السياسية والعسكرية والاقتصاديّة، والتضييق على المسلمين المتمسّكين واضطهادهم، ونشر الموبقات وحمايتها كالرّبا والزّنى.. (1)

هل وصف العلمانيين (أو أياً من شرائح المجتمع) بالمتحللين أو وضعهم في نفس الخانة دليل على أن الديمقراطية خيار حقيقي يسعون لتحقيقه، أم أنه مجرد وسيلة؟

... إن الإخوان سيستخدمون القوة حيث لا يُجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدّة الإيمان والوحدة، وسيكونون شرفاء وصرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يُقدمون في عزّة وكرامة، ويتحمّلون نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.

قد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله، وتنفيذاً لأحكامه. أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد، والتشريع الفعلي في واد، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة لا يكفّرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف.
والإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمّة من يستعد لحمل هذا العبء والحكم بمنهاج قرآني فهُمْ جنوده وأنصاره، وإن لم يجدوا فالحكم من مناهجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفّذ أوامر الله. وإنه لابدّ من أن يسبق إقامة الحكم نشر لمبادئ الإسلام...(2)

أين الديمقراطية والمواطنة والحقوق المدنية في ذلك؟ فإما أن يكون الحكم وفق التشريع الإسلامي وإلا فاستخدام القوة مباح بل هو واجب لاستخلاص قوة التنفيذ من الحاكم. وكل حكومة لا تكون على مقاسهم فسوف ينقلبون عليها بقوة السلاح، ولا يمنعهم عن ذلك في أي مرحلة من المراحل سوى استكمال العدة.

لست أناقش هنا موضوع الدولة الدينية أو المدنية، ولكن يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: لو افترضنا أننا قبلنا بدولة دينية إسلامية تحكم وفق الشريعة، فأي شريعة بالضبط؟ ألا نتفق أن لكل مذهب أو جماعة فهمها وتفسيرها الخاص حول الإسلام وتشريعاته حتى لو كانت تنتمي إلى نفس الطائفة؟ تصوروا معي أن كلاً منها سوف تستخلص الحكم بالقوة إن لم تجد أن الحاكم يحكم وفق الشريعة، وبالتالي وفق فهمها هي لتلك الشريعة! لن نجد أنفسنا إلا ونحن نخوض غمار حروب أهلية لا تنتهي تتنافس فيها الجماعات الإسلامية على استلام زمام الحكم لتحقيق غايات خلافة الإنسان لله على الأرض (كل وفق مفهومه مرة أخرى لهذه الخلافة ولأساليب تحقيقها)

أما الخلافة فهي رمز الوحدة الإسلامية، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدّم الصحابة رضوان الله عليهم النّظر في شأنها على النظر في دفن النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام كثيرة. والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهاجهم، وهم ـ مع ذلك ـ يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات الضرورية...(2)

إذاً الخلافة هي الهدف الأساسي وفي رأس المنهاج، وليست الديمقراطية المذكورة في البرنامج السياسي سوى وسيلة ليصلوا بها إلى السلطة، وعندها لكل حادث حديث.

ومن الخطوات التمهيدية لتحقيق أهداف الإخوان المسلمين:

4- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي.
5- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، منفّذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.
6- وإعادة الكيان الدولي للأمّة الإسلامية: بتحرير أوطانها وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتّى يؤدّي ذلك كلها إلى إعادة الخلافة المفقودة، والوحدة المنشودة..(2)

لندقق هنا في البند الرابع. لو أن الجملة انتهت عن كلمة أجبني لاحترمت هذا البند. لكن إتباعها بـ "غير إسلامي" ما هي إلا إعادة تعريف لما يقصدونه بالأجنبي، أي هو من منظورهم كل غير مسلم! أي أنهم يعتبروني أجنبي لأني غير مسلم، وهذا بالنتيجة انتزاع المواطنة السورية مني، وهذا ما لا يقبل به أحد على الإطلاق ولن نسمح به أن يحدث. فإما أن يقبلوا بأننا جميعاً مواطنون سوريون متساوون في الحقوق والواجبات في ظل قانون لا يفرق بين مسلم وآخر غير مسلم حتى لو كان ملحداً، وإما فليبحثوا لأنفسهم عن مكان آخر يجدون فيه مواطنين على مقاسهم. لنكن جميعاً مواطنون تحت سقف هذا الوطن ولا يحاول أحدنا فرض قوانينه على الآخرين. ليكن قانوننا الأول هو احترام حرية الآخر في الاعتقاد والتعبير، ليس في الشكل والقول فقط بل في المضمون والعمل أيضاً. أي في ظل قانون يضع الجميع في ميزان واحد دون النظر إلى دين أو عرق جنس. لا يمكن أن نكون أمة يوماً ما طالما نسمح حلولاً شعاراتية من مثل: الإسلام هو الحل، العلمانية هي الحل، الليبرالية هي الحل. لن نكون أمة حتى نحترم التعددية والاختلاف ونعمق قناعاتنا بأن احترام الآخر هو مفتاح لحريتنا.

لست ضد الإخوان المسلمين بذاتهم، لكن ضد هذا الانفصام الذي يعانون منه بين القول والممارسة، بين النظرية والبرنامج السياسي. لا أمانع بأن يصل حزب إسلامي أو ذو خلفية إسلامية إلى السلطة (بعد احترام مبدأ تداول السلطة) ويحاول تطبيق رؤيته للحياة والعلاقات الاجتماعية والأخلاق من منظور إسلامي. ولكن لن أقبل أن يتم فرض الشرائع علي كما جاء في تعريفهم هم بجماعتهم.

1) التعريف بجماعة الأخوان المسلمين-الحلقة الأولى.

2) التعريف بجماعة الأخوان المسلمين-الحلقة الثانية.

Tuesday, September 25, 2007

في المعارضة السورية

ليس من العدل، بحقنا نحن المواطنون السوريون، شن الحملات يومياً على النظام السوري بما يمارسه من تسلط واستبداد أدى إلى فقدان كل أمل في الإصلاح والتغيير. لا نسمع سوى بيانات وشجب وتنديد من هنا وهناك ضد ممارسات النظام بحق الشعب وبحق المعارضين وأصحاب الرأي الآخر وفي أحسن الأحوال دعوات وبرامج خجولة للتغيير. لكن، هل المعارضة منزهة عن الخطأ وتسلك الطريق الصحيح نحو التغيير؟

انقسم الشعب السوري كنتيجة لإقصائه عن الحياة السياسية والشأن العام إلى قسمين: الأول مازال خاضعاً للماكينة الإعلامية للنظام ومصدقاً لما تروجه من أقوال وأفكار حول القضايا السياسية الداخلية والخارجية وفي بعض الأحيان حول الإصلاحات الخلبية في المجال الاقتصادي. أما الثاني فقد بدأ يصدق كل ما تقوله المعارضة السورية كرد فعل عاطفي تجاه تدهور الأوضاع المعيشية وفقدان مصداقية الإعلام التابع للنظام، وأصبح يضفي مسحةً من القدسية على رجالات المعارضة ومواقفهم. بل والأسوأ من ذلك أصبح، للأسف الشديد، من دواعي الوجاهة الاجتماعية الادعاء بالانتماء إلى المعارضة تنظيمياً أو فكرياً أو بالأحرى كلامياً، فأنت مثقف لمجرد أنك معارض. لم يعد التدقيق في الأقوال ومقارنتها مع الأفعال أحد الطرق المهمة التي يجب أن يسلكها المواطن في سبيل تحديد موقفه من هذا الطرف أو ذاك في قضية معينة، بل أصبح الحدس والاعتماد على تجارب سابقة هو الحكم الفاصل في تبني المواقف.

نحن بحاجة اليوم إلى مراجعة لعمل المعارضة السورية بل وأيضاً إلى التدقيق في أهداف أطرافها المختلفة المعلنة والغير معلنة. فالهدف ليس المعارضة من أجل المعارضة بذاتها، بل من أجل إحداث التغيير الضروري ليعيش المواطن حقوقه كاملة دون انتقاص في جميع المجالات. هذه المراجعة ضرورية ،من جهة أولى، لتصويب عمل المعارضة ودعمها معنوياً وفكرياً باتجاه إتمام عملية التغيير المنشودة بأقل خسائر ممكنة وبأفضل الطرق، ومن جهة أخرى لحماية أنفسنا من الفخ الذي ينصبه لنا بعض الوصوليون الذين دأبوا على ركوب الموجة السائدة لتحقيق مطامعهم الشخصية في الوصول إلى السلطة.

من هذا المنطلق أود هنا طرح رأيي بكل صراحة ووضوح ودون مواربة، من باب حق إبداء الرأي في القضايا التي تمسني بشكل مباشر كمواطن سوري، ومن خلال مراقبتي للأحداث التي تمر بنا بشكل يومي.

انعقد المؤتمر الثاني لجبهة الخلاص الوطني منذ بضعة أيام فقط وقرأت بيانها الختامي على موقع "عفرين نت" بعد بحث طويل عن هذا البيان يوم الثلاثاء الماضي والذي أثار استغرابي هو عدم نشر هذا البيان حتى تاريخ كتابة هذه السطور على الموقع الرسمي لجبهة الخلاص، وهنا إشارة استفهام كبيرة. القطبان الرئيسيان لهذه الجبهة هما عبد الحليم خدام أحد أعمدة النظام لحوالي أربعين عاماً وصدر الدين البيانوني المرشد العام للإخوان المسلمين في سوريا. ليس من المنطق أبداً غض الطرف ونسيان تاريخ خدام وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا والقول عفا الله عن ما مضى. فلا يمكن لخدام إقناعي بأنه تغير بين ليلة وضحاها ونسف كل بنيته العقائدية وتبنى الديمقراطية فجأة. لا أجد فيه سوى شخص يريد السلطة بأي شكل من الأشكال وشاءت الأقدار أن ينفصل عن النظام بسبب خلافات شخصية ومصلحية أو بسبب انتهاء مدة صلاحيته كنائبٍ للرئيس، فلم يعد أمامه سوى الخروج من سوريا والعمل ضد النظام السوري، وليس مطالبته بالديمقراطية سوى مطية يركبها أملاً بالعودة إلى قيادة البلد من جديد. لو أنه اعترف بتاريخه النضالي في سبيل الوصول إلى بضعة مليارات الدولارات التي يمتلكها لكان في الأمر نظر. أما بالنسبة لجماعة الأخوان المسلمين، فلا أعتقد أن أحداً نسي فترة أحداث الثمانينات التي قاموا خلالها بقتل المدنيين من الشعب السوري تحت ذرائع مختلفة، طبعاً لست هنا بصدد الدفاع عن النظام، فكلاهما ارتكب أبشع الجرائم بحق الشعب السوري. لست أبداً من مؤيدي ربط الأفعال بالماضي دائماً والدوران حول نفس النقطة دون تجاوزها، ولكن ورغم تأكيدات جماعة الإخوان المسلمين المتكررة على تبنيهم الديمقراطية كخيار وطني، إلا أننا لم نلاحظ اعترافاً واضحاً من قبلهم بأخطاء الماضي ولم نلاحظ أيضاً في أدبياتهم المختلفة أن الديمقراطية والمواطنة أصبحت من صلب بنيتهم الثقافية والأيديولوجية. يبقى الأهم من تاريخ هذا وذاك هو الحاضر. ماذا قدمت جبهة الخلاص إلى الآن؟ لا شيء على أرض الواقع سوى بيانات وتصريحات هنا وهناك كالبيان الخاص بأحداث غزة والترحيب بقرار مجلس الأمن بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (أصبح الجميع تواقين لمعاقبة قتلة الحريري، وتناسوا كل المآسي التي يعاني منها الشعب العراقي والشعب الفلسطيني، أو في أحسن الأحوال يذكرونها بشكل خجول) أو البيان الخاص باغتيال وليد عيدو. نلاحظ قاسماً مشتركاً في البيانات السابقة جميعاً، وهو التشابه الكبير بين اللغة التي تستخدمها هذه البيانات ولغة بيانات البيت الأبيض!!! لا بأس بالطبع أن تتشابه بل وتتطابق وتتقاطع بعض التوجهات والأفكار، ولكن كل البأس في أن تصل إلى حد التماهي لكن بإضافة بعض المنكهات العربية البسيطة في ما يخص القضية الفلسطينية والعراقية كرفع للعتب. مع كل هذا الصخب في البيانات نجد ما يسمى بالمشروع الوطني للتغيير وبرنامجه التنفيذي. مجرد كلمات عامة، أكاد أجزم بأن كل مبتدئ في السياسة يستطيع صياغة برنامج مشابه له، حتى أننا نجد في هذا البرنامج الكثير من الشعارات التي تعودنا على سماعها من النظام نفسه سابقاً. كما ويمكننا ملاحظة بعضاً من الخطاب السياسي الذي يروج له البيت الأبيض من مثل "وقف سياسات الاستحواذ على الأشقاء العرب والكف عن التدخل في شؤونهم...". يمكن أن يعترض أحدهم ويقول: لا يمكن الخوض في التفاصيل في البرامج والبيانات فهذا برنامج سياسي يحدد الأهداف والخطوط العريضة فقط، ومن جهة أخرى، لا يحق لك مصادرة حريتهم في التعبير عن رأيهم تجاه ممارسات النظام وكيفية صياغة العلاقات المستقبلية مع الدول العربية الأخرى. هذا الاعتراض محق تماماً من الناحية الشكلية. لكن ما أطالب به كمواطن سوري، تحاول الكثير من الجهات أن تنصيب نفسها كناطق باسمي، أن أعرف مصدر هذا البرنامج كملخص لجهد كبير من المفترض أن تلك الجهات قد قامت به. أي بعبارة أخرى أين الدراسات والمراجعات التاريخية والسياسية وحتى الاقتصادية التي قامت بها للوصول إلى تلك الخلاصة؟ دون تلك الدرسات تغدو جميع البرامج عبارة عن تنسيق لبعض الكلمات والتوجهات السياسية التي ترضي جميع الأطراف المشاركة بها والأطراف التي تستجدي دعمها للوصول إلى غاياتها. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني عند الحديث عن إحدى شخصيات أو تجمعات المعارضة: هل يحق لهذا التجمع ممارسة العمل السياسي والدخول في معركة الانتخابات في حال حدث التغيير المطلوب؟ أعتقد بالنسبة لجبهة الخلاص كجهة اعتبارية، بأن لها كل الحق في ذلك، ولا يجب محاكمتها على النوايا، ولكن في الجهة المقابلة من حقنا وواجبنا التساؤل عن النوايا بناءً على المعطيات التي ذكرتها لتوي.

لنتطرق إلى مثال آخر في حديثنا عن المعارضة، وهو محمد مأمون الحمصي. أؤكد مرة أخرى على رفض مقولة عفى الله عن ما مضى، فالتدقيق في تاريخ الشخصيات والمنظمات والدول يساهم إلى حد كبير في فهم الخط البياني الذي تسير عليه الأقوال والأفعال والتي من خلالها نتمكن من استقراء الأهداف المستقبلية. لنسأل مأمون الحمصي، أين كان وماذا كان يفعل قبل دخوله البرلمان السوري؟ من كان شركاؤه وحلفاؤه ولماذا اختلف معهم؟ وكيف وصل إلى البرلمان وما هي الأسباب الحقيقية وراء نقمة النظام عليه وتوجيه التهم المختلفة له والتي أدت إلى سجنه؟ لا أريد هنا نشر الشائعات ولكن يجب علي طرح مثل تلك الأسئلة بعدما تطابقت الأخبار التي سمعتها من أكثر من مصدر من أقاربه حول طبيعة أعماله وتجارته وتحالفاته السابقة. لنهتم هنا والآن بالحاضر والتساؤل عن طبيعة العمل المعارض الذي يقوم به. لم أستطع إيجاد أي عمل ذو طبيعة سياسية حقيقية لنقول عنه أنه معارض أو موالي. فمن خلال بحثي عن مواقف مأمون الحمصي وأعماله لم أجد سوى بعض البيانات والمقابلات الصحفية التي نشرت معظمها إن لم يكن جميعها على موقع شفاف الشرق الأوسط. لم أجد في هذه البيانات سوى السعي الحثيث لاستجداء الاعتراف به من قبل البيت الأبيض عن طريق التبني الكامل لجميع مقولاتها حول النظام النظام السوري وعلاقته بالوضع الإقليمي المتأزم، ومن خلال توجيه الرسائل المختلفة إلى منظمة الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية. ولكن أكثر ما يلفت النظر هو دعوته الصريحة والمباشرة لشن الحرب على سوريا. وهذا ما قاله حرفياً في البند الثالث من رسالته الموجهة إلى منظمة الأمم المتحدة، حيث يطلب منها: إنشاء قوة دولية رادعة لعصيان النظام للقرارات الدولية ومواجهة ممانعته لتنفيذها، ومواجهة برنامجه التخريبي في المنطقة قبل تنفيذه، تمهيدا لإسقاطه وسوقه للعدالة وتحرير الشعب السوري من ظلمه.

هذه الرسالة منشورة على الموقع المذكور بتاريخ 20-تموز-2007 تحت عنوان "موقف دولي مسؤول أم دمار قادم". ويفسر هذا الطلب بشكل أكبر إحدى الجمل التي قالها خلال لقاء صحفي سابق مع جريدة السياسة الكويتية والتي قال فيها: الادارة الاميركية تعترف بانها اخطأت في العراق. ولكن في كل وقت وكل ساعة لا يمكن انهاء مشاكل المنطقة, الا بان يتصدى المجتمع الدولي باكمله والولايات المتحدة لاستئصال هذا النظام وسوقه الى العدالة. ولا يتم هذا الامر الا بالقوة, لكن خشيتنا الا يحصل دمار لهذه الدول يكفي ما تعرضت له هذه المنطقة.

هذا اللقاء منشور أيضاً على نفس الموقع بتاريخ 1-تموز-2007 تحت عنوان "نظام دمشق مصنع للإرهاب".

في الحقيقة لا أرى في هذا الشخص سوى طامح لأن يكون أحمد جلبي سوريا. لا يمكننا في حالة مأمون الحمصي الدفاع عنه اعتماداً على مقولة حرية التعبير عن الرأي بأي شكل من الأشكال، حيث أكرر بأنها دعوة واضحة وصريحة لشن حرب على سوريا واحتلالها من قبل الولايات المتحدة. إنها خيانة وقحة، ولا يجوز التعامل معه أبداً كمعارض سوري، بل يجب محاكمته في أقرب فرصة ممكنة حتى لو تغير النظام السوري وحدث التغيير الديمقراطي المطلوب.

المثال الثالث في معرض الحديث عن المعارضة السورية، هو الأحزاب والشخصيات المنضوية تحت إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. للعديد من هذه الأحزاب والشخصيات تاريخ عريق في العمل السياسي يعود في بعض الأحيان إلى خمسة عقود خلت. فالديمقراطية والحرية تشكل أحد المكونات الأساسية التي نلاحظها بوضوح عند التدقيق في أدبياتها وإطارها الفلسفي، مثل الأحزاب المكونة للتجمع الوطني الديمقراطي. يجمع هذه الأحزاب والشخصيات جديتها في النضال في سبيل الانتقال إلى نظام ديمقراطي، بالرغم من اختلاف مشاربها الفكرية، حيث نجد فيها الماركسي والاشتراكي والليبرالي. لكن هذه المعارضة مازالت ضعيفة وغير قادرة حتى الآن على التأثير في موقف المواطن السوري ناهيك عن إحداث التغيير الذي تطمح إليه في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. ويمكننا التماس العذر لها في التضييق الذي تتعرض له من قبل النظام من خلال الحرب الإعلامية عليه والاعتقالات المستمرة بحق شخصياتها. لكن هذا لا يعفيها من مسؤوليتها تجاه المواطن السوري التي حملتها على عاتقها. فهناك الكثير من نقاط الضعف التي تعانيها في آلية تنظيم عملها المعارض وخصوصاً طريقة التعاطي مع النظام كأيدولوجيا وممارسة، بالإضافة إلى عدم قدرتها على التواصل مع المجتمع وتكوين قاعدة شعبية تستند إليها وتعمل لأجلها من أجل تحقيق الغاية. الحديث عن هذه المعارضة التي أعتبرها بذرة معارضة حقيقة يحتاج إلى مواضيع خاصة بها للبحث فيها، وهناك أكثر من نقطة يمكن التعليق عليها في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. وأكتفي هنا بالقول بأن هذه المعارضة بحاجة إلينا كما نحن بحاجة إليها، فلا يكفي عقد الأمل عليها في تحقيق الحلم الديمقراطي، بل واجب علينا دعمها من خلال مشاركتها عملياً أو معنوياً، ومن جهة أخرى من خلال إغناء عملها بالأفكار والنقد لمساعدتها على فهمنا كمواطنين سوريين وإدراك حاجاتنا الحقيقة لصياغة برنامج عمل بحجم الطموح والمسؤولية.

في الختام، يجب أن نصر ونعمل على الانتقال إلى نظام ديمقراطي يعتمد المواطنة كأساس له ومحمولاً من الداخل ومن خلال نضال الشعب السوري، وليس طارئاً قادماً من الخارج، حتى لا نخضع لأجندات الدول الأخرى، ولنكون مستحقين لهذه الديمقراطية وقادرين على الحفاظ عليها وتطويرها.